كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَمَّا التَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَدْ قَالَ الْكَوَاشِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا خَتَمَ سُورَةَ النِّسَاءِ آمِرًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. وَنَقَلَ الْأَلُوسِيُّ عَنِ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ فِي بَيَانِ ذَلِكَ: أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِدَّةِ عُقُودٍ صَرِيحًا وَضِمْنًا؛ فَالصَّرِيحُ عُقُودُ الْأَنْكِحَةِ، وَعَقْدُ الصَّدَاقِ، وَعَقْدُ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْأَمَانِ، وَالضِّمْنِيُّ: عَقْدُ الْوَصِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، الدَّاخِلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4: 58) فَنَاسَبَ أَنْ تُعَقَّبَ بِسُورَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الَّتِي فُرِغَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي السُّورَةِ الَّتِي تَمَّتْ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا عُقُودٌ.
قَالَ: وَوُجِّهَ أَيْضًا تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَتَأْخِيرُ الْمَائِدَةِ بِأَنَّ أَوَّلَ تِلْكَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (4: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَنْزِيلِ الْمَكِّيِّ، وَأَوَّلُ هَذِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (5: 1) وَفِيهَا الْخِطَابُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِخِطَابِ الْمَدَنِيِّ، وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ، أَيْ خِطَابُ النَّاسِ كَافَّةً وَشَبَهُ الْمَكِّيِّ أَنْسَبُ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي التَّلَازُمِ وَالِاتِّحَادِ نَظِيرُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَتَانِكَ اتَّحَدَتَا فِي تَقْرِيرِ الْأُصُولِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَاتَانِ فِي تَقْرِيرِ الْفُرُوعِ الْحُكْمِيَّةِ، وَقَدْ خُتِمَتِ الْمَائِدَةُ بِالْمُنْتَهَى مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَكَأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى. اهـ.
أَقُولُ: هَذَا أَجْمَعُ مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِ الرَّازِيُّ وَلَا الْبَقَاعِيُّ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ مُعْظَمَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَعَ شَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأُطِيلَ بِهِ فِي آخِرِهَا، فَهُوَ أَقْوَى الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَأَظْهَرُ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ، كَأَنَّ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُتَمِّمٌ وَمُكَمِّلٌ لِمَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَفِي كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمِنَ الْمُشْتَرَكِ مِنْهَا فِي السُّورَتَيْنِ: آيَتَا التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ، وَحُكْمُ حِلِّ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَزَادَ فِي الْمَائِدَةِ حِلُّ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ مُتَمِّمًا لِأَحْكَامِ النِّكَاحِ فِي النِّسَاءِ. وَمِنَ الْمُشْتَرَكِ فِي الْوَصَايَا الْعَامَّةِ: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالشَّهَادَةُ بِالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِأَحَدٍ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَمِنْ لَطَائِفِ التَّنَاسُبِ فِيهِمَا، أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ مَهَّدَتِ السَّبِيلَ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ حَرَّمَتْهَا أَلْبَتَّةَ، فَكَانَتْ مُتَمِّمَةً لِشَيْءٍ فِيمَا قَبْلَهَا، وَانْفَرَدَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِأَحْكَامٍ قَلِيلَةٍ فِي الطَّعَامِ وَالصَّيْدِ وَالْإِحْرَامِ، وَحُكْمِ الْبُغَاةِ الْمُفْسِدِينَ، وَحَدِّ السَّارِقِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ كَمَالِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الْمُؤْذِنَةِ بِتَمَامِهَا، كَمَا انْفَرَدَتِ «النِّسَاءُ» بِأَحْكَامِهِنَّ وَأَحْكَامِ الْإِرْثِ وَالْقِتَالِ، وَهِيَ مِمَّا كَانَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِهَا.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَآئِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
الْوَفَاءُ وَالْإِيفَاءُ: هُوَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا لا نقْصَ فِيهِ {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} (17: 35) {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (16: 91) وَيُقَالُ لِمَنْ لَمْ يُوفِ الْكَيْلَ: أَخْسَرَ الْكَيْلَ، وَكَذَا الْمِيزَانُ، وَلِمَنْ لَمْ يُوفِ الْعَهْدَ: غَدَرَ وَنَقَضَ، وَلِكُلِّ كَلِمَةٍ مَوْضِعٌ، وَ{الْعُقُودُ}: جَمْعُ عَقْدٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ اسْتُعْمِلَ اسْمًا فَجُمِعَ، وَمَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ الْحَلِّ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَقْدُ: الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، أَيْ: وَرَبْطُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ الصَّلْبَةِ؛ كَعَقْدِ الْحَبْلِ وَعَقْدِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْمَعَانِي؛ نَحْوَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْعَهْدِ وَغَيْرِهِمَا. اهـ.
وَمِنْهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَفَسَّرُوهُ فِي الْآيَةِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مَا يُعْهَدُ إِلَيْكَ لِأَجْلِ حِفْظِهِ، وَيُطْلَبُ مِنْكَ الْقِيَامُ بِهِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْيَمِينَ وَعَقَدَ النِّكَاحَ: أَبْرَمَهُ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (4: 33) وَعَقَدَ الْبَيْعَ، وَعَقَدُوا الشَّرِكَةَ، وَيُقَالُ عَاقَدْتُهُ وَعَاهَدْتُهُ، وَتَعَاقَدْنَا وَتَعَاهَدْنَا. وَعَهْدُ اللهِ: كُلُّ مَا عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ حِفْظَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ أَوِ التَّلَبُّسَ بِهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَمَا يَتَعَاقَدُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ: هُوَ أَوْثَقُهَا وَآكَدُهَا، فَالْعَقْدُ أَخَصُّ مِنَ الْعَهْدِ.
وَ(الْبَهِيمَةُ): مَالآنطْقَ لَهُ، وَذَلِكَ لِمَا فِي صَوْتِهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ خُصَّ فِي التَّعَارُفِ بِمَا عَدَا السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، قَالَهُ الرَّاغِبُ.
وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ مُطْلَقًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَهِيمَةُ كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعِ قَوَائِمَ، وَلَوْ فِي الْمَاءِ، أَوْ كُلُّ حَيٍّ لَا يُمَيِّزُ، جَمْعُهُ بَهَائِمُ. اهـ.
و(الْأَنْعَامُ): هِيَ الْإِبِلُ (الْعِرَابُ) وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ. وَالْغَنَمُ: (الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ) وَإِضَافَةُ بَهِيمَةٍ إِلَى الْأَنْعَامِ لِلْبَيَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. «كَشَجَرِ الْأَرَاكِ» أَيْ: أُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الْبَهِيمَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ؛ أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمُشَابِهَةُ لِلْأَنْعَامِ، قِيلَ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ هُوَ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي الْحِلِّ.
وَ(الْحُرُمُ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ حَرَامٍ، وَهُوَ الْمُحَرَّمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، و(شَعَائِرُ اللهِ) مَعَالِمُ دِينِهِ وَمَظَاهِرُهُ، وَغَلَبَ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشُّعُورِ.
وَ(الْهَدْيُ): جَمْعُ هَدِيَّةٍ؛ كَجَدْيٍ جَمْعُ جَدِيَّةٍ لِحَشِيَّةِ السَّرْجِ وَالرَّحْلِ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ؛ لِيُذْبَحَ هُنَالِكَ، وَهُوَ مِنَ النُّسُكَ، و(الْقَلَائِدُ) جَمْعُ قِلَادَةٍ، وَهِيَ مَا يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ، وَكَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ مِنَ الْهَدْيِ بِنَعْلٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ لِحَاءِ شَجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِيُعْرَفَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ أَحَدٌ، كَمَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ أَوْ عَادُوا مِنْهُ؛ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
و(يَجْرِمَنَّكُمْ) مِنْ جَرَّمَهُ الشَّيْءَ: أَيْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ يَجْرِمُهُ، أَيْ: يَكْسِبُهُ وَيَفْعَلُهُ، فَهُوَ كَكَسْبٍ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَصْلُ الْجَرْمِ قَطْعُ الثَّمَرَةِ عَنِ الشَّجَرَةِ، و(الشَّنَآنُ): الْبُغْضُ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِي يَصْحَبُهُ التَّقَزُّزُ مِنَ الْمَبْغُوضِ، يُقَالُ شَنَأَهُ (بِوَزْنِ مَنَعَ وَسَمَعَ) شَنَأً (بِتَثْلِيثِ الشِّينِ) وَشَنَآنًا (بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِهَا) وَمَشْنَأً وَمَشْنَأَةً: أَبْغَضَهُ، وَشُنِئَ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَشْنُوءٌ أَيْ مُبْغَضٌ، وَإِنْ كَانَ جَمِيلًا، وَضِدُّهُ الْمُشْنَأُ (كَمُقْعَدٍ) وَهُوَ الْقَبِيحُ وَإِنْ كَانَ مُحَبَّبًا، وَالشَّنُوءَةُ: الْمُتَقَزِّزُ وَالتَّقَزُّزُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: شَنَئْتُهُ: تَقَزَّزْتُهُ؛ بُغْضًا لَهُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُقُودِ: عُهُودُ اللهِ الَّتِي عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ: «مَا أَحَلَّ اللهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا» وَعَنْ قَتَادَةَ: هِيَ عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ مَا كَانَ مِنَ الْحِلْفِ فِيهَا، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدَةَ: الْعُقُودُ الْخَمْسُ: عُقْدَةُ الْإِيمَانِ، وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الْبَيْعِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الشَّرِكَةِ، وَعُقْدَةُ الْيَمِينِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي عَقَدَهَا عَلَيْنَا، وَالَّتِي نَتَعَاقَدُ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَنَا. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي عَنِ الرَّاغِبِ، قَالَ: الْعُقُودُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْقُودِ وَالْعَاقِدِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: عَقْدٌ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ، وَعَقْدٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَعَقْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ الْمُوجِبِ لَهُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ وَهُوَ مَا رَكَّزَ اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَتَهُ فِي الْإِنْسَانِ فَيَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِمَّا بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَإِمَّا بِأَدْنَى نَظَرٍ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (7: 172) الْآيَةَ، وَضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ مَا دَلَّنَا عَلَيْهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَلِكَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ؛ إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ ابْتِدَاءً أَوْ يَلْزَمَ بِالْتِزَامِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ. وَالثَّانِي أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: فَالْأَوَّلُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ؛ كَالنُّذُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرَبِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ إِنْ عَافَانِي اللهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ؛ كَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ؛ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَالرَّابِعُ وَاجِبٌ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا الْمُسْلِمَ. فَيَحْصُلُ مِنْ ضَرْبِ سِتَّةٍ فِي أَرْبَعَةٍ: أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضَرْبًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كُلَّ عَقْدٍ سِوَى مَا كَانَ تَرْكُهُ قُرْبَةً وَاجِبًا، فَافْهَمْ وَلَا تَغْفُلْ. اهـ.
هَذَا أَجْمَعُ كَلَامٍ رَأَيْتُهُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ تَجَدَّدَ لِأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ تَبِعَهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُودِ، يَذْكُرُونَهَا فِي كُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُسْتَحْدَثَةِ؛ مِنْهَا مَا يُجِيزُهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُدَوَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُجِيزُونَهُ؛ لِمُخَالَفَتِهِ شُرُوطَهُمُ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا. كَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ قَوْلًا حَتَّى لَوْ كَتَبَ اثْنَانِ عَقْدًا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ قَوْلًا أَوْ كِتَابَةً نَحْوَ: تَعَاقَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ بِكَذَا وَالثَّانِي بِكَذَا، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِالْقَوْلِ وَأَمْضَيَا مَا كَتَبَاهُ بِتَوْقِيعِهِ أَوْ خَتْمِهِ، لَا يَعُدُّونَهُ عَقْدًا صَحِيحًا نَافِذًا، وَقَدْ يُصِيغُونَهُ بِصِيغَةِ الدِّينِ، فَيَجْعَلُونَ الْتِزَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمُبَاحٍ وَإِيفَاءَهُمَا بِهِ مُحَرَّمًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ. وَيَشْتَرِطُونَ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ شُرُوطًا:؛ مِنْهَا مَا يَسْتَنِدُ عَلَى حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرِ صَحِيحٍ، صَرِيحِ الدَّلَالَةِ أَوْ خَفِيِّهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَنِدُ إِلَّا عَلَى اجْتِهَادِ مُشْتَرَطِهِ وَرَأْيِهِ، وَيُجِيزُونَ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَاقَدُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهَا حَتَّى بِالرَّأْيِ.
وَأَسَاسُ الْعُقُودِ الثَّابِتُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ الْمُخْتَصَرَةُ الْمُفِيدَةُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَفِيَ بِمَا عَقَدَهُ وَارْتَبَطَ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْهُ، فَالتَّرَاضِي مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4: 29) وَأَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، إِذِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً، وَالْإِشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ فِي حُصُولِ الْمَقْصِدِ مِنَ الْعَقْدِ؛ كَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ الَّذِي مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ تَعَبُّدًا بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّةِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إِعْطَاءُ الثَّوْبِ لِلْغَسَّالِ أَوِ الصَّبَّاغِ أَوِ الْكَوَّاءِ، فَمَتَى أَخَذَهُ مِنْكَ كَانَ ذَلِكَ عَقْدَ إِجَارَةٍ بَيْنَكُمَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِمَنْ بِيَدِهِ تَذَاكِرُ السَّفَرِ فِي سِكَكِ الْحَدِيدِ، أَوِ الْبَوَاخِرِ وَأَخْذُ التَّذْكِرَةِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَرُكُوبُ سُفُنِ الْمَلَّاحِينَ وَمَرْكَبَاتِ الْحُوذِيَّةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ إِيصَالِ الرَّاكِبِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ.
فَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَعُدُّهُ النَّاسُ عَقْدًا، فَهُوَ عَقْدٌ يَجِبُ أَنْ يُوفُوا بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَحْرِيمَ حَلَالٍ أَوْ تَحْلِيلَ حَرَامٍ مِمَّا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ؛ كَالْعَقْدِ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ عَلَى إِحْرَاقِ دَارِ أَحَدٍ، أَوْ قَطْعِ شَجَرِ بُسْتَانِهِ أَوْ عَلَى الْفَاحِشَةِ، أَوْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ- الْقِمَارِ- وَالرِّشْوَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَيْسِرِ فِي كَوْنِهِ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ مِنَ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا، وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَدْخَلُوا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَالْغَرَرِ مَا لَا تُطِيقُهُ النُّصُوصُ مِنَ التَّشْدِيدِ، وَدَعَّمُوا تَشْدَيدَاتِهِمْ بِرِوَايَاتٍ لَا تَصِحُّ، وَأَشَدُّهُمْ تَضْيِيقًا فِي الْعُقُودِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَأَكْثَرُهُمُ اتِّسَاعًا وَسِعَةً الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَمِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُعْظَمَ تَشْدَيدَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ ذَهَابُ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْحَظْرُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا إِلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بَاطِلٌ. وَعَدُّوا مِنْ هَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِطْلَاقُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَكَذَلِكَ الشُّرُوطُ، وَلاسيما الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالْحَظْرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَيُؤَيِّدُ إِطْلَاقَ الْآيَةِ حَدِيثُ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ، بِزِيَادَةِ «إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ يَعْتَضِدُ- كَمَا قِيلَ- بِحَدِيثِ «النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتِ الْحَقَّ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ حَدِيثِ الصُّلْحِ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِدُونِ زِيَادَةِ «الشُّرُوطِ» وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ.